الخدمة بمحبة
بهذا المبدأ نما وترعرع الإكليريكي أنطوان جميل شهدا، مع فئة من أصدقائه الذين قرروا أن يكون الكهنوت محوراً لحياتهم، والخدمة طريقهم، والمحبة شعارهم.
أنطوان جميل شهدا من مواليد مدينة حلب 19 آب 1946 ابن عائلة مسيحية، والده جميل عبد الله شهدا ووالدته سامية نخلة كبة.
تلقّى علومه الابتدائية بمدرسة القديس أغناطيوس الأنطاكي بحلب، وفي سنة 1962 توجّه إلى دير الشرفة الإكليريكية الصغرى بلبنان وانتهى منها بشهادة البكالوريا سنة 1967 التي خوَّلته الدخول إلى الجامعة لمتابعة دروسه الللاهوتية. سنة 1968 دخل جامعة الروح القدس ( الكسليك )، وحاز فيها على إجازة في الفلسفة واللاهوت والعلوم الليتورجية. تابع علومه في فرنسا وحاز على شهادة اختصاص بتدريس اللغة الفرنسية خارج الأراضي الفرنسية من معهد ” المعاهدة الفرنسية ” بباريس.
نال الدرجات الكهنوتية الكبرى من شماسية وكهنوتية بكنيسة سيدة الانتقال سنة 1973 على يد مثلث الرحمات المطران فيليب بيلوني.
ومن الجدير بالذكر أنَّ السيامة الكهنوتية تحوَّلت إلى لقاء مسكوني، إذ يقول كاتب الخبر في النشرة السريانية لسنة 1973 العدد الثاني: ” وتطوَّع كشاف ومرشدات أفواج طائفة السريان الأرثوذكس لحفظ النظام، باعتبار أنَّ الكاهن يرتسم في طائفة شقيقة توطَّدت أواصر المحبة معها في احتفالات ذكرى مار افرام اليوبيلية “.
سنة 1979 عين إلى فنزويلا ليرعى الجالية العربية السورية عموماً والحلبية خصوصاً ، ويعيدها إلى الكنيسة الأم، ويذكِّرها بأنَّ الكنيسة تصون وتحفظ إيمان أبنائها. عمل مع كل الفئات العربية السورية المسيحية والإسلامية، ومدَّ يد العون إلى الجميع، فأصبح الشعلة التي يراها كل ناظر، ووصل إلى قول المسيح ” ليضىء نوركم للناس ليمجّدوا أباكم الذي في السموات “. وهكذا سار بحياته، ليكون مثلاً في عطائه، وشهادة حيّة ليسوع المسيح أمام كل الشعوب، وجندياً باسلاً يشهد بعمله على أخلاق وطنه، ويثبت للعالم بأنَّ الوطن والكنيسة والإنسانية وحدة لا تتجزأ من حياة الإنسان.
سنة 2000 وخلال السينودس المقدّس، تمَّ انتخاب الخورأسقف أنطوان شهدا إكسرخوساً للكنيسة السريانية في فنزويلا، أي أنَّ تعب هذا الكاهن الشاب قد أعطى ثمراً، وأوصل صوت وعادات وتقاليد الكنيسة الشرقية إلى فنزويلا، مما جعل الكنيسة تعترف بعمله وتعبه لتأسيس هذا المركز.
سنة 2001 وبعد استقالة المطران أنطوان بيلوني من أبرشية حلب، وخلال السينودس المقدّس، تمَّ انتخاب الخورأسقف أنطوان شهدا مطراناً على أبرشية حلب وتوابعها للسريان الكاثوليك، فبدأ التفكير الجديّ من قبله حول ترك ما كان أسسه في بلاد الاغتراب، والعودة إلى أبرشية أحبّها، وكان لها قبل أن يكون لدولة الاغتراب، فكان قراره بأنَّ الله هو الذي يختار ويعطي المسؤولية في كنيسته، وهو الذي يرعى ويسوس شعبه، وقد اختاره ليكون راعياً أميناً حكيماً لشعبه وكنيسته. فتخلّى عن كل شيء وجاء ليكون ابناً باراً وخادماً أميناً ومطيعاً لأمر السنودس المقدّس.
كان اللقاء حميمياً لهذه العودة بعد غربة دامت اثنتين و عشرين عاماً… ليست عودة مشتاق أرّقه البعد عن الأهل والوطن والأحبّة فحسب، إنّها قبل كل شيء عودة من أجل المتابعة والاستمرار… متابعة تلك الرسالة السامية… خدمة الرب يسوع المسيح… هي التي أبعدت من قبل دون سابق إنذار، وهي التي تقرِّبُ الآن دون سابق تمهيد. فما أعظم مجدك يا رب!
من منطقة الحمدانية وعلى مشارف مدينة حلب كانت لحظات اللقاء تشتعل فيها هذه العواطف المتبادلة كلمات ترحيبٍ وقبلاتٍ وعناقٍ ما لبث أن مضت مع مضي الزمن غير أنَّها ترسَّخت في شغاف القلوب وتسرَّبت مع نبضات العروق. الساعة هي الحادية عشرة واليوم هو يوم الأربعاء المصادف في 28 تشرين الثاني، وعدد من الأساقفة والكهنة وجمهور من المستقبلين في إطار واحد…
وبعد توقّف قصير، تابع الموكب سيره مخترقاً شوارع المدينة، حتى وصل إلى باب الكاتدرائية، فاستقبلته جموع أخرى حفَّت به، وعند دخول سيادته إلى الباب الرئيسي للكنيسة، راحت الأجراس ترسل ترانيمها للآتي باسم الرب، مشاركة في هذه اللحظات خطوات سيادته، حتى وصوله إلى الهيكل المقدّس… فارتفعت الأصوات من تلك الزاوية المرسومة بالأنغام تعزفها الجوقة قائلة: أهلاً بك راعياً حكيماً… توبشلوم رعيو شاريرو… وكانت الشفاه ترافق تلك الترنيمة فرحاً ومحبّة. وتقدّم حضرة الخورأسقف ليون عبد الصمد، النائب العام، يرحّب بسيادته بكلمات معبّرة، تحمل الانتظار الذي انتظرته أبرشية حلب، والآمال التي ترجوها الأبرشية، والحب والفرح الذي شعر به جميع الكهنة والشعب.
وكانت بعد ذلك كلمة سيادته التي أرهفت إليها الأسماع، وعبَّرت عن الفرحة بالعودة إلى حلب، ملعب الطفولة والشباب ومنطلق الرسالة الكهنوتية، وتحدَّث فيها لعفوية صادقة عن أهميّة التعاون بين الأسقف والكهنة من جهة، وبين الكهنة والشعب من جهة أخرى. وتوجَّه بالتحية والشكر إلى قائد البلاد السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد. وبعد مظاهر الحفاوة والاستقبال في الكنيسة، انتقل سيادته إلى صالون الكاتدرائية في جوّ من الترحيب والتصفيق، حيث تقبَّل التهاني من أبناء الأبرشية والمعارف والأصدقاء.
وكان الزمان في هذا كله يعود إلى الوراء… أتذكر حين… أتذكر تلك الصورة… هذا لديه كلمة من أيام الماضي يطرحها وهو يردفها بسعادة الحاضر… وذلك صديق يعانق فيستحث سيادته الذاكرة… ويلفظ الاسم وتتداعى الصور.
وإذا كانت المهمة خطيرة، فإنه قد بدأها معتمداً على الله. وما بين يوم الاستقبال وحتى يوم السيامة، راح يتعرّف على الرعية، يستمع إلى كل كلمة ويصغي إلى كلّ رأي. فأن تكون أخاً وصديقاً وأباً وراعياً، ينبغي أن تكون قريباً وقريباً جداً… وفي ذات الوقت كانت اللجان قد انصرفت تتوزع العمل تحضيراً ليوم التنصيب ولمراسيم السيامة